كتب الكترونية

رومنطيقيو المشرق العربي/ حازم صاغية

——————————

الانكفاء والواقعية والكرامة: رومنطيقيو حازم صاغية/ ياسين الحاج صالح،  ورد حازم صاغية: الخروج من الماهوية والاستثناء

في مقصده الأساسي يصبو رومنطيقيو المشرق العربي، كتاب حازم صاغية الذي صدر للتو عن رياض الريس للكتب والنشر، إلى أن يكون «دفاعاً عن التطابق مع الواقع ومع العالم، والربط بين تغيرهما باتجاه أكثر ديمقراطية وحداثة وتقدماً وعدالة بالإمكانات والأدوات التي يوفرها هذان الواقع والعالم». عدم التطابق هو الرومنطيقية التي يتعقبها حازم في التفكير والسياسية المشرقيين منذ ما بعد التنظيمات العثمانية، لكن بصورة خاصة بعد استقلال بلدان المشرق وقيام دولة إسرائيل في الوقت نفسه تقريباً. الكتاب مستحق لقراءة متمعنة، ييسِّر من أمرها الأسلوب السلس الرشيق الذي تميز به حازم على الدوام. 

في نحو 560 صفحة، يستعرض المثقف والصحفي اللبناني تخلل الموقف الرومنطيقي (أو الرومنسي) عموم التيارات الفكرية والسياسية المشرقية: من القومية إلى الماركسية إلى الإسلامية، سنيةً وشيعية، إلى ما بعد الكولونيالية محمولاً على «جائحة نقد الاستشراق»، وصولاً إلى الطائفية التي يجري التكتم عليها أو تأويلها على نحو يحجبها (أو فصلها كلياً عن تشكلات عصبوية قرابية أسبق)، متقصياً النزعة أو الحساسية الرومنطيقية في طروحاتها النظرية، إن وجدت، وفي ممارساتها السياسية. وليس بعيداً عن مقصد حازم القول إن الرومنطيقية تعطي «أولوية للمذهب» على الواقع، أي أنها مثالية بالمعنى الذي كانت أشاعته الماركسية؛ معنى أولوية الأفكار على الواقع. ويمكن تصور أنه لو ألف الكتاب في سبعينات القرن الماضي فلربما حضر في عنوانه مدرك المثالية بدل الرومنطيقية، وربما مدرك اللاواقعية في الثمانينات والتسعينات. على أن للرومنطيقية ميزة أنها تدرج تنويعاتنا من أولوية المذهب في تراث أوسع، عابر للثقافات.

ينضوي تحت مفهوم الرومنطيقية «العداء الحاسم للرأسمالية وللتنوير، والحدة التعبيرية، والصوت الخاص، وضعف الحفول بالواقع وممكناته لمصلحة تصعيد الذات وطاقاتها المفترضة، ثم الإفضاء إلى خلاصات قصوى، إن لم تكن عدمية». وفضلاً عن ذلك، يعبد الرومنطيقيون الجذور والأبطال، وبالتالي الأنبياء، ويُعلون من شأن الإرادة.

والرومنطيقية عموماً هي ما عولت عليه مشاريع متنافرة، منها صهيونية وقبلها نازية، أما في الإطار العربي فتحضر الرومنطيقية «كسد لنقص فادح في الواقع الموضوعي». هذه عبار تستوقف. فنقص الواقع هو تصور يحيل ضمناً إلى تصور معياري للتاريخ كشيء متحقق أو كامل في مكان ما، يتعين التطابق معه، أو كمسعى يسير في اتجاه محدد، معروف سلفاً. هناك روح هيغلية في هذا التصور للتاريخ، حيث على الشيء أن يطابق مفهومه المتحقق عبر عملية تحقق الفكرة المطلقة التي بلغت وعي ذاتها في فلسفة هيغل بالذات. وجدت هذه التاريخانية انعكاسها كمذهب عمل في شيوعية القرن العشرين عبر مفهوم «سمة العصر»، وقد كانت السمة – كما هو معلوم – الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. اكتمال الواقع بتحقق هذه السمة وفر معياراً لتقييم الوعي والسياسة، ما يسير في الاتجاه الصحيح للتاريخ وما يسير بعكسه، وتالياً تحديد من ينجو ومن يُلعَن. النقطة مهمة في كتاب يتحدث عن الرومنطيقية، لأنها يمكن أن تكون قناة لكثير من الرومنطيقية، ولكثير من العنف أيضاً، مما ارتبط دوماً بمعرفة اتجاه التاريخ الذي هو اتجاه اكتمال الواقع و«سد نقصه». فما دمنا نعرف محطة الوصول، وهي بحسب حازم الحداثة والتنوير والرأسمالية، فلمَ لا يكون كل مسعى من أجل الوصول مقبولاً؟ يبدو هذا غريباً في كتاب لحازم صاغية، العقلاني الليبرالي، الذي لا يؤمن بالخلاص والناقد لعقائد الخلاص. لكن التاريخانية في تداولها العربي (وغير العربي) مذهب خلاص. سبق للعروي، وقد كان للتاريخانية حضور أساسي في فكره، أن وصفها بأنها الترياق الذي يحرر المثقف العربي من شياطينه الداخلية.

وعلى أرضية نقص الواقع، كيف يستقيم في سياق الكلام على السلطنة العثمانية المتأخرة نقد حازم لـ«التدخل الإرادي لمثقفين ذوي تكوين إيديولوجي معين» بغرض صنع القومية والأمة، ما دام هذا التدخل «نيابة عن تطور اجتماعي أو اقتصادي ما»؟ أو التحفظ على «إضفاء الرمنطقة على العلم ذاته»؟ ومن باب تقليب هذه القضية على وجه إضافي، يمكن مثلاً تصور عبارة من نوع أن الرومنطيقية مهرب من واقع مُذِلّ ولا يطاق (بدلاً من واقع ناقص). ودون أن تكف عن أن تكون رومنطيقية بقدر ما، فإن السياسة التي يمكن تصورها حيال واقع مُذِلّ هي أقل انغلاقاً من السياسة الغائية لواقع ناقص، دون أن تكون حتماً سياسة كرامة بالمعنى الذي ينتقده حازم (وستجري العودة إلى هذه النقطة). الواقع أن الوجهة العامة للاعتراض الديمقراطي في بلدان مثل سورية ومصر وتونس وغيرها جمعت بين مقاومة واقع مُذِلّ وبين مطلب الكرامة الذي شغل موقعاً بالغ الأهمية في «الربيع العربي».

وجد المنزع الرومنطيقي للنخبة المشرقية في العقود الأخيرة من الحكم العثماني في نزعة قومنة السلطنة العثمانية على غرار القوميات الأوربية، مع مركزية تركية، لم تمتنع عن أعتى التهويلات المميزة للدعاة القوميين على ما يوضح الكتاب. كان هذا استجابة «للشعور بفداحة الدور الأوروبي»، وقد حضر بوصفه «إخضاعاً واحتلالاً»، ومع ذلك فهو يشغل هنا «الدور الذي أدته الرأسمالية والتنوير في أوروبا». لكن ألا يبدو ذلك تقليلاً من شأن «الإخضاع والاحتلال»، أي الاستعمار؟ كانت الرأسمالية والتنوير داخليَّي المنشأ في أوروبا، غيّرا المجتمع بمجمله ومن تحت، ومع ذلك أثارا ردود فعل محافظة مثّل عليها إدموند بورك بين آخرين، على ما يرد في الكتاب. ومن المفهوم أن تكون هذه الردود أكبر في مجتمعات جاءها «الدور الأوروبي» من فوق ومن خارج، وبعنف غالباً. في تناول حازم، تبدو الاستجابات في جهتنا من العالم ضرباً من معاندة للعالم، «تتنيح» غير عقلاني بالمرة، أو تغليب للكرامة على الموضوعية كما يقول حازم، وليس استجابة متعثرة على مشكلة صعبة بالفعل: الجهة التي يأتي منها الاستعمار هي ذاتها الجهة التي تأتي منها حضارة كاملة، بالغة الديناميكية والتجدد، وحّدت العالم لأول مرة، بل «اخترعته» بعد أن لم يكن موجوداً. في وقت لاحق، وبخاصة في سبعينات القرن العشرين وما بعد، لم يعد الميل الانكفائي أو الممانع نتاجاً للرضّة الاستعمارية على ما قد تقول دراسات ما بعد الاستعمار، بل صناعة سياسية، يرفع القائمون عليها الصوت ضد الغرب الاجتماعي والثقافي أكثر من السياسي والعسكري. تطورت على يد أنظمة ما بعد السبعينات منازع خبيثة تجمع بين تغذية هذا الميل الانكفائي المرتاب بالعالم، وبالغرب بخاصة، وبين التكيف السلبي التام مع أوضاع السيطرة الدولية، فلم تكد تبقى لدينا أنظمة غير ممانعة. وقلما انحصرت الخيارات خلال نصف القرن السابق بين قبول بالواقع الدولي والتحرك وفق معطياته، وبين رفضه الممانع الكاذب. لقد جرى الجمع بين الأسوأين: التسليم السلبي بالواقع الدولي، ومنه استثنائية إسرائيل وعنصريتها، بل وأولوية أمنها، ثم تحريم الحياة السياسية في الداخل وتغذية نظريات المؤامرة والارتياب بالغرب، ودوماً مع إرساء شر الغرب في الليبرالية والحريات المدنية والسياسية، فضلاً عن «الجمعيات النسوية»، على ما أمكن لشيخ سوري قوله مؤخراً. والحال أن مقاومة عقلانية للأشكال الأشد عدائية من السيطرة الغربية وغير الغربية ممكنة وعقلانية، لو استندت إلى تركيب معاكس: تعدد فكري وسياسي في الداخل، وسياسات وطنية جدية على المستوى الدولي.

هذه بدورها نقطة مهمة لأنها وثيقة الصلة بمجمل منظور حازم في الكتاب. تبدو المشكلة كامنة في سياسات واهمة تتجاوز القدرات الفعلية، رومنطيقية سياسية لا تعترف كثيراً بمبدأ الواقع أو هي ضعيفة «الحفول بالواقع وممكناته». ربما كان هذا صحيحاً أيام عز القومية العربية والجيل الأول بعد الاستقلال في خمسينات القرن العشرين وستيناته. المزايدة، أي الشعارات المنفصلة عن الواقع والقدرات الفعلية، والمستسلمة لضرب من «مبدأ اللذة» الإيديولوجي، وقد برع فيها بعثيو سورية أكثر من غيرهم، كانت هي التعبير الأصدق عن الرومنطيقية واللاواقعية. لكن هذا لم يعد صحيحاً منذ سبعينات القرن الماضي على الأقل. جيل حافظ الأسد وأنور السادات وحسني مبارك وصدام حسين، وبعدهم بقليل معمر القذافي، لا يختلف عن ملكيات الخليج في مزيج من إلغاء الحياة السياسية بذريعة الخصوصية و/أو مواجهة المخاطر الخارجية، ومن تفاهمات ضمنية مع القوى المسيطرة بغرض ضمان بقاء النظام. فهل تكون هذه اللاواقعية من طرف حازم ضرباً من رومنطيقية معكوسة؟ لا يكاد يبدو في الكتاب أن هناك اعتراضات على سياسات أميركية وغربية ليست هوياتية ورومنطيقية في دوافعها، وهو ما يعطي لموالاة القوى المسيطرة وحدها زعم الواقعية. يؤخذ على ثائرين سوريين مثلاً أنهم كانوا غير راغبين بتدخل أميركي في بلدهم. والحال أنهم يؤخذ عليهم العكس كذلك، بما في ذلك تسمية إحدى جُمع المظاهرات الأسبوعية «جمعة الحماية الدولية»، على ما هو مذكور في الكتاب بالفعل. لكن في أي جهة نجد الواقعية هنا؟ في تسمية إحدى الجمع بالتدخل الدولي، وقت كان المسؤولون الأميركيون والأطلسيون لا يفوّتون أسبوعاً أو اثنين دون القول إنه لا نية لهم للتدخل في سورية، أم في توريط النفس بالترحيب بتدخل غير وارد رغم كل شيء؟ ومن هو الرومنطيقي: من يحل أمنياته بتدخل دولي يُسقط النظام رغم كل المؤشرات المعاكسة، أم من يتشكك ويتحفظ؟

وليس اعتبار الكرامة وحده وراء التشكك والتحفظ، ولا الكرامة مجرد مفهوم رومنطيقي يتقابل مع الموضوعية والواقعية، كما في تناول حازم. الكرامة قيمة حقوقية وسياسية أساسية، عليها يتأسس مفهوم حقوق الإنسان، وعليها قامت بقدر كبير الثورات العربية، وأخذت في السياق السوري دلالات محددة لا رومنطيقية فيها: ألا يُضرَب الناس ويُهانوا ويعذَّبوا من قبل المخابرات وما شابه، وألا يُضطروا طوال الوقت للرشوة والواسطة من أجل تسيير أبسط مصالحهم اليومية. إنكار الواقع وممانعة العالم المميِّزان لكل من التفكير القومي والإسلامي، ولقدر طيب من التفكير الماركسي، ليسا متولدَين عن مفهوم الكرامة، بل عن تفريغه من مضمونه ورده إلى كبرياء كاذب موجه ضد الغرب. الإسلامية يحفزها نازع الكرامة بالفعل، لكن في انفصال عن الثورات الفكرية السياسي والحقوقية والأخلاقية في عالم اليوم، بل في رفض مجرد أخذ العلم بها، فترتد كرامتها إلى تكبُّر أجوف، أو إلى منزع عدائي عدمي، مؤذ للذات قبل الغير. مثل ذلك يصح بخصوص القوميين، الذين استطاعوا الجمع بين عداء ثقافي واجتماعي للغرب وبين التبعية لقوى مثل إيران وروسيا. حازم يميّز في موقع من الكتاب بين الكرامة وبين «العنجهية» التي هي تفريغ للكرامة من مضامينها. هذا جاء في سياق التعليق على قول متكبِّر لقاسم أمين في مرحلته المبكرة: «ليس لدى مصر ما تحسد الغرب عليه، بل ربما كان لدى الغرب، بالعكس، ما يحسد مصر عليه». البطلان الواضح لهذا القول هو إهانة ذاتية، وليس فعل كرامة.

يميز حازم بين تركيبين فكريَّين سياسيَّين كانا مرتعَين للرومنطيقية، و«طريقتين للتعبير عن صعوبة الدخول في الحداثة الرأسمالية والديمقراطية»: قومي ديني، أو عربي إسلامي، ثم قومي اشتراكي. وقد تجسدا في الناصرية، حيث «راح الحكام الجدد يطبّقون النسبية الثقافية قبل عقود من صعودها في الجامعات ومراكز البحث الغربية». وهذا عبر فرادة قوميتنا وفرادة اشتراكيتنا. لقد جرى عبر هذين التركيبَين الفوقيَّين «قضم الواقع» من قِبَل السلطة، مقابل ضرب من «الاطمئنان السعيد وتوهم السيطرة على الدنيا». هذا التركيبان مستمران بالفعل، وبخاصة القومي الديني. وليست الخصوصية الإسلامية، أي امتناع ديار المسلمين وعقيدتهم على أي وجهة عالمية عامة، غير شكل محافظ من الرومنطيقية والحنين إلى الماضي، كان وجد تعبيره من قبل في فكرة الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة.

تحضر ثنائية الشرعية والسيادة في الكتاب مرتين، لكن دون توضيح كاف. يبدو أن المقصود شرعية وجود الدول (وليس شرعية حكمها) وسيادتها (حيال بعضها، وليس قدرتها على أن تكون قوى سيدة في العالم)، ويرى حازم أنه جرى الإعلاء من شأن معيار الشرعية والتهوين من شأن السيادة. لكن خارج الدلالات المحددة لهذه التعابير في منظور قومي عربي يتحفظ على شرعية وجود الدول ذاتها، وبقدر ما إسلامي، يمكن التساؤل: أين المشكلة في اعتبار الشرعية أهم من السيادة؟ في سياق ديمقراطي ليبرالي، شرعية الدولة، وشرعية عنفها بالتالي، تتصادم مع سيادتها التي تتظاهر بتعليق القانون وفرض حال الاستثناء أو الطوارئ بحسب كارل شميت، وعلى ما يذكر حازم في الكتاب. دولنا تنظر إلى مجتمعاتنا بعين السيادة الواحدية، وليس بعين السياسة التعددية، هذا بينما تتعامل مع قوى السيطرة الدولية، الغربية وغير الغربية، بعين السياسة لا بعين السيادة. هذا السياق المختلف يغير معنى دالَّي الشرعية والسيادة (والسياسة)، بما كان يدعو إلى مزيد من التحديد والتوضيح.

يُعجَب المرء بتحليلات حازم كثيراً وبمذهبه أقل، وهذا كلام قاله عبدالله العروي يوماً عن ريمون آرون. للعروي حضور إيجابي في كتاب حازم، يكاد يشاطره إياه ياسين الحافظ. هذان اسمان من بين عشرات آخرين يوفر رومنطيقيو المشرق العربي نظرات نافذة في أعمالهم: من نامق كمال وضيا غو كالب في العقود الأخيرة من حياة السلطنة العثمانية، إلى جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وحسن البنا وسيد قطب، إلى باقر الصدر وأخته نور الهدى، إلى ميشيل عفلق، أدونيس، إلياس مرقص، برهان غليون، إدوارد سعيد وجوزف مسعد ووائل حلاق، إلى أسامة مقدسي وعزمي بشارة، إلى عادل عبد المهدي الذي كان ترجم يوماً بعض عمل سمير أمين قبل أن يصير رئيس وزراء شيعياً في العراق (حازم يجد استمرارية وجيهة بين ريفية الماوية وبين أصالية قومية وإسلامية في منطقتنا)، إلى أنطون سعادة وجبران ومهدي عامل وفواز طرابلسي، مع حضور إيجابي لكل من أحمد بيضون ووضاح شرارة.

رومنطيقيو المشرق العربي شديد الإيجابية حيال الربيع العربي، والثورة السورية بخاصة، وهذه نقطة بالغة الأهمية. لمؤلف الكتاب ملاحظات نقدية هنا وهناك، لكن الجملة الختامية من الكتاب تقول بوضوح لا لبس فيه أن أول شروط انكسار «الدائرة الرومنطيقية» التي كانت داعش أحدث تجسداتها هو «أن ترحل الأنظمة السياسية وتصطحب معها عدداً هائلاً من الأفكار والقناعات التي تحكمت بأهل هذه المنطقة». لا ريب في ذلك. وهذا ليس لأن رحيل الأنظمة «هو الحل» – بحسب ما يرى الشعبويون، الذين يقول حازم في أحد هوامش الكتاب أني أعفيهم من النقد خلافاً للثقافويين – ولكن لأنه ليس هناك فرصة لأي معالجات أو حلول في ظل أنظمة تمنع محكوميها من الاجتماع والكلام وتخوض حرباً مستمرة ضد المستقبل. حازم شريك في هذا التصور. وتعليقي على النقد الخاص بامتناعي عن نقد الشعبوية أنه يغفل الشروط السياسية للكتابة في بلد مثل سورية، حيث وجدت تنويعة الثقافوية العلمانية التي أنتقدها نفسها على قرب من النظام وأجهزة مخابراته بخاصة، وتطوعت للنيل من معارضيه، بينما كانت «الشعبوية»، أياً يكن المقصود بها، بالكاد قادرة على الكلام. نتكلم ضمن حقول سياسية وإيديولوجية مستقطَبة بعينها، وليس من فوق الاستقطابات والصراعات الاجتماعية والسياسية.

حازم من جيل من المثقفين خَبِر في حياته الشخصية وفي حياة بلده لبنان والعالم العربي القضايا والتيارات الفكرية والسياسية التي يتناولها في الكتاب. هذا يلون صفحات ما يكتب – مثلما يحدث لأكثرنا وربما لجميعنا – بسخط معتق، لا يخفيه مؤلف رومنطيقيو المشرق العربي، ولا يستسلم له. وهو من قلة في المجال العربي كله اليوم ممن يمكنهم تغطية شؤونه مسلحين باطلاع واسع وبمعرفة غنية، حتى ليمكن وصفه بالقومي العربي الأخير دون أن يكون هذا مزاحاً بالكامل.

موقع الجمهورية

الخروج من الماهوية والاستثناء/ حازم صاغية

كرّمَ الصديق ياسين الحاج صالح كتابي رومنطيقيّو المشرق العربيّ بمراجعة نقديّة، صارمة ودؤوبة ومسهبة نسبيّاً. هنا، سأمرّ، في التعقيب عليها، على نقاطها الأساسيّة، آملاً أن أتطرّق إلى مسائل إمّا أنّ الكتاب لم يعالجها بما يكفي أو أنّه عاملها كتحصيلٍ حاصل.

يضبطني ياسين متلبّساً بالهيغليّة، وإلى حدّ ما بالعُرويّة والحافظيّة، وبكلمة بـ «التاريخانيّة». أمّا برهانه والعبارة التي استوقفتْه فقولي إنّ الرومنطيقيّة تحضر «كسدٍّ لنقص فادح في الواقع الموضوعيّ» للمشرق العربيّ. وهو إذ يوحي باقتراح تعبيرٍ آخر هو «واقع مُذلّ لا يُطاق»، بدلَ واقع ناقص، ينسب لي ما يعادل التبشير بطوبى مُلزمة، أو بواقع بديل «كامل»، أو ربّما بالواقع البديل الكامل بألِف التعريف ولامه. والحال أنّه منذ محنة السيّد فوكوياما، ما عادت أيّ عين بصيرة تقود صاحبها إلى مثل هذا المَهلك. فإذا انقاد إليه، رغم ذلك، نبّهتْه أزمة الديمقراطيّة الضاربة اليوم، ومعها الصعود الشعبويّ، إلى أنّ الأمور ليست مُقدّرة ولا حتميّة أو مضمونة.

والأدعى للدهشة هنا أنّ استشهاداتي الكثيرة بكارل بوبر، أحد أشرس خصوم التاريخانيّة ونقّادها، لم تُلحَظ أصلاً ولم توجِد لي، في محاكمة ياسين، أسباباً تخفيفيّة.

ما أزعمه، بقدر لا يخفى من التجريبيّة، أنّ الإشارة إلى نقص فادح ليست بالضرورة اقتراحاً لكمال ناجز مُدرَك مسبقاً، وإن كانت لا تكتم تزكيتها قيماً بعينها يمكن تقديم عشرات البراهين على تفوّقها على القيم المضادّة لها. فهو ليس نقصاً بالنسبة إلى فكرة جاهزة مُثلى وخلاصيّة، بل نقصٌ (deficiency) في متطلّبات الواقع كما تفترضه حياة كريمة في ظرفٍ راهن ما، وكما تصفه مؤسّسات ومنظّمات دوليّة وإنسانيّة وكتابات نظريّة قليلة الأدلجة وكثيرة المعطيات والأرقام. والأمر، في آخر المطاف، ليس «نهاية» للتاريخ بل، إذا صحّ التعبير، محاولة استدعاء «بداية» له، بدايةٍ لا توفّرها إلاّ معانقة العقل والحرّيّة والعدل والسعي والمبادرة الإنسانيّين. هذا هو الواقع الذي دعا الكتاب إلى التطابق معه وقياس النفس ومحاسبتها على أساسه.

وإذا جاز الهبوط من المجرّد، الذي يستهوي ياسين، إلى المحدّد، الذي يستهويني، قلت إنّ واقعنا ناقص ليس فقط بسبب ضنّه بالحرّيّة والكرامة الإنسانيّة، بل أيضاً، وهو موصول بالنقص الأوّل، لعدم امتلاكه فرص العمل والتعليم الجيّد والبيئة النظيفة والشروط الصحّيّة التي يستحقّها كلّ إنسان… إنّه واقع لا يُعاش فيه بل يُفرّ منه إلى واقع يكون أشدّ احتواءً على الشروط المذكورة، على ما تدلّ حركات الهجرة واللجوء المليونيّة.

فالمسألة، هنا، مسألة مقارنة لا صلة لها بـ «سمة العصر» أو بـ «تحقّق الفكرة المطلقة». إنّنا دون ذلك بكثير، أوطانُنا قد لا تعود أوطاناً وشعوبنا قد لا تعود شعوباً فيما الشروط السائدة والكابحة تهدّد بتحويلنا عبيداً معاصرين هائمين على وجوههم في أرض الله الواسعة. أمّا أن تقود المقارنة إلى تغليب النموذج الذي نفرّ إليه على النموذج الذي نفرّ منه، فهذا بديهيّ لا أشكّ في أنّ ياسين يشاطرني الإقرار ببديهيّته، هو الذي عانى ما عاناه من سوء النموذج الطارد/المهجور.

لكنّ ما يؤتى على ذكره عربيّاً بوصفه بديهة إنّما يبقى عند معظمنا بديهة ميّتة كأنْ نقول، وكثيراً ما نقول: «وهل نحن مثل السويد؟»، ثمّ نمضي في سبيلنا إلى بيت الخلاء. فهي بالتالي بديهة لا تستحقّ التوقّف عندها، ناهيك عن البناء عليها والاستنتاج منها. وهذا، في ما أظنّ، مشكلة كبرى: فالبديهة تلك لا تُفضي إلى معنى، ولا تُشتَقّ منها خلاصات، ولا يُستَشهد بتجارب اشتَقّ منها أصحابها، على عكس حالنا، خلاصات. فحين يقال أنّ الملايين تلجأ من بلدانِ نموذجٍ معيّن إلى بلدان نموذج آخر فهذا يزكّي البلدان التي يُلجأ إليها، لا بوصفها جهات جغرافيّة، بل بوصفها تجارب تاريخيّة قابلة، من حيث المبدأ، للمحاكاة، بقدر ما يستحقّ أن يصبغ نقدنا لبلداننا، إن كأنظمة حكم أو كأنظمة تفكير، براديكاليّة قصوى تعصف بنماذجها المقابِلة. فإن عزَفنا، بحجّة استعماريّةِ النموذج المُفضَّل، عن المقارنات وعن البناء عليها، وهي غدت مقارناتٍ في اللحم الحيّ، كنّا كمن يؤثِر السير في عتم مفاهيميّ وسياسيّ كامل، أو الخبط هكذا بلا إشارات في هذا العالم. والحقّ أنّ تكراريّة التجارب والمقارنات، وهي بالضبط ما يجعل البديهيّ بديهيّاً، لا تترك للاجتهاد مساحات يُعتدّ بها.

فعلى العكس منّا، لم تحل القنبلة الذريّة التي ضرب بها الأميركيّون اليابانيّين دون تقليد الأخيرين لنموذج الأوّلين، ولا حالت الوحشيّة الهائلة التي مارسها اليابانيّون في بلدان جيرانهم الآسيويّين الصغار دون تعميم النموذج اليابانيّ في ذاك الجوار، وهذا كلّه لم يرافقه كلام، لا عن «سمة العصر» ولا عن «تحقّق الفكرة المطلقة».

وفي المعنى هذا لا تكون التخمة الإيديولوجيّة التي نعيشها، أنظمةً وتنظيمات وأفكاراً ومثقّفين وسياسيّين، بريئة من التعبير عن ذاك النقص من طريق إنكاره أو توهّم التعويض اللفظيّ عنه، وهو ما يحترفه اليوم الممانعون ويتفوّقون فيه من غير أن يقتصر أمره عليهم.

فنقد الرومنطيقيّة بالتالي ليس كنقد «المثاليّة» عند الماركسيّين، أقلّه لأنّ النقد الأخير جزء من مذهب سلطويّ كثيراً ما استُخدم لمصادرة الأفكار وامتصاص سيولتها، وهذا بينما تحتلّ الحرّيّة هنا موقعاً مركزيّاً وأساسيّاً لا يدعو إلى المصادرة على شيء بما في ذلك الرومنطيقيّة من أيّ جهة جاءت. وإذا كان المروّجون لـ «سمة العصر» يضمنون أنّ ما من رادٍّ لتحقّق السمة ولهبوطها المحتّم على كوكبنا بلداً بلداً، فإنّ أكثر ما أفعله، في هذا الكتاب وفي سواه، هو التوكيد على الانسدادات التي تحول دون انتصار الحرّيّة والديمقراطيّة في ربوعنا، وعلى الأدوار الذاتيّة التي تضمن وحدها التغلّب على انسدادات كتلك.

وينسب ياسين إليّ «محطّة وصول» هي «الحداثة والتنوير والرأسماليّة»، ويضيف كما لو أنّه يترجم لسان حالي المُفترض: «فلمَ لا يكون كلّ مسعى من أجل الوصول مقبولاً». أي أنّني، وفق هذا الوصف، قد أبرّر العنف والقمع ما داما يخدمان بلوغ تلك «المحطّة»، تماماً كما يفعل ستالينيٌّ يبرّر قتل الملايين على مذبح انتصار الاشتراكيّة المحتّم. وهنا أيضاً يتغافل الصديق العزيز عن تمييزي، بناءً على ملاحظة للراحل صادق جلال العظم، بين الحداثة بوصفها modernity وبينها بوصفها modernism، حيث الأولى ديمقراطيّة وإنسانيّة النزوع والتوجّه فيما الثانية مذهب يتاخم العلمويّة ويتعالى على الناس ويخشى دمقرطتهم.

والغريب، هنا، غريبان. فأوّلاً، لم أقل، لا في هذا الكتاب ولا في سواه، إلاّ أنّ الحرّيّة تتقدّم كلّ قيمة أخرى وتعلوها، وأنّها الشرط الشارطُ لنهوض الناس إلى الخيار، وللخيار الذي يرسون عليه. ثمّ لو لم يكن ياسين هو الكاتب، وهو مَن لا تراودني ذرّة شكّ بحسن نيّته، لشككتُ كثيراً بالنيّة من وراء تنسيبي إلى «الحداثة والتنوير والرأسماليّة» حصراً، وإغفال الحرّيّة والديمقراطيّة. فإنّما لهذا السبب دافعتُ، في هذا الكتاب وقبله، عن ضرورة أن نتحمّل حاكماً إسلاميّاً، شديد البعد عن التنوير، وأن نرفض الانقلاب العسكريّ عليه، ما دام أنّ أكثر أبناء شعبه اختاروه رئيساً، ناقداً أولئك الذين لم يفعلوا، إمّا لأنّهم غير ديمقراطيّين أو لأنّهم ذوو نَفَس ديمقراطيّ قصير أو مستعجل.

ومن دون نفي البُعد الإيديولوجيّ في مفاهيم كالحرّيّة والديمقراطيّة، فإنّها تبقى أقلّ الإيديولوجيّات إيديولوجيّةً، فيما تستبعد كلّ عبادة، خصوصاً عبادة الدولة (التاريخانيّة)، وتزكّي صنع الناس تاريخهم ومستقبلهم، وليس صنع «عِلمٍ» ما لهما. والناس، في آخر المطاف، يصنعون ذينك التاريخ والمستقبل بما يلائم مصالحهم لأنّهم كائنات عاقلة وعقلانيّة حين يتاح لهم سبيلٌ إلى ذلك، وإذا ما أتيح.

وأظنّ أنّ ياسينَ ليس واحداً من أولئك الذين تعجّ بهم ثقافتنا السياسيّة في معظم تيّاراتها، ممّن يتجاهلون ما تُحدثه الديمقراطيّة من فارق كبير بين نظام وآخر. وكم يبدو هذا الغياب فاقعاً حين يحتلّ انشغالهم بنواقص الديمقراطيّة الغربيّة وعيوبها، وهي قائمة بالطبع، مساحة أكبر كثيراً ممّا يُعطى لتفوّقها على أنظمة شبيهة بأنظمتنا.

والراهن أنّ الديمقراطيّة هي أيضاً ليست معبودة أو خلاصيّة أو مُبرّأة من العيوب. فهي تعايشت طويلاً مع الاستعمار، وحتّى الأمس القريب كانت هناك ديمقراطيّة للبيض وحدهم في جنوب أفريقيا، ولا تزال هناك «ديمقراطيّة يهوديّة» في إسرائيل تمنح اليهود حقوقاً أكبر وأكثر كثيراً ممّا تمنح العرب، وحتّى إطاحته مؤخّراً على يد العسكر، قام في ميانمار نظام ديمقراطيّ يهجّر المسلمين من ديارهم…، وهذا ناهيك عن انتقادات وجيهة تطال بعض أعرق الديمقراطيّات الغربيّة، لا سيّما حين تجنح إلى الحرب وتقضم أطراف المؤسّسات المنتخبة أو تلتفّ على حُسن اشتغالها. لكنّنا لا نجد ما ينقد هذه الممارسات التمييزيّة كما نجده في الديمقراطيّة ذاتها. وقد يقول قائل إنّ الأفكار الاشتراكيّة، مثلاً لا حصراً، توفّر عناصر نقد مشابه للممارسات التمييزيّة التي تقدم عليها أنظمة اشتراكيّة. بيد أنّ الفارق كبير جدّاً، مؤدّاه أنّ نقد الاشتراكيّين أنظمتَهم يرفعه منشقّون ومنفيّون يعيشون في بلدان ديمقراطيّة، فيما يحصل نقد الديمقراطيّين لديمقراطيّتهم في بلدانهم نفسها، حيث فيها فحسب تُطرَح هذه المسائل وتُناقَش.

ويستشهد ياسين بالمعارضة التي واجهت الرأسماليّة والتنوير داخل أوروبا، ويذكر إدموند بيرك الذي أشرتُ إليه في الكتاب، مستخلصاً أنّ مبرّرات هذه المعارضة وأسبابها أكبر وأشدّ قابليّة للفهم في بلدان كبلداننا غزتْها أوروبا.

وهذا صحيح بالطبع، ومن المفهوم تماماً أن يُكرَه الاستعمار بجميع محمولاته، وأن يبادر المقهور إلى معاندة القاهر وإلى الردّ عليه. إنّه حقّ لا يرقى إليه الشكّ، إن لم نقل إنّه شأن إنسانيّ و، بلغة القرن الثامن عشر، طبيعيّ. لكنّ الإقرار بهذا الحقّ لا يحول دون مساءلته ومساءلة تعبيراته وتجاربه: ما هي طبيعة الردّ على الاستعمار؟ ما هي البدائل التي قُدّمت عنه؟ من هي القوى التي تخوض الصراع معه؟ ما تجاربها؟ ما الأكلاف قياساً بالعائدات؟ ما الذي تتعلّمه تلك القوى من صراعها بما يجعل دوراته الجديدة أشدّ إثماراً، أو أقلّ إيلاماً، من دوراته السابقة…؟

هكذا ظهر أوروبيّون عاصروا بيرك ونقدوه بقوّة معتبرين أنّه يتراوح ما بين محافظ ورجعيّ. أمّا عندنا فليس مأموناً حتّى اللحظة نقد الحاج أمين الحسيني أو باقي سابقيه ولاحقيه المتراوحين ما بين المحافظة والرجعيّة.

يقول ياسين: «والحال أن مقاومة عقلانية للأشكال الأشد عدائية من السيطرة الغربية وغير الغربية ممكنة وعقلانية، لو استندت إلى تركيب معاكس: تعدد فكري وسياسي في الداخل وسياسات وطنية جدية على المستوى الدولي». لكنْ متى حصلت هذه الـ «لو» على مدى مئة عام ونيّف؟ ألا يسمح هذا الغياب المديد بالقول إنّها، للأسف، غير مرشّحة للحصول ما لم تسبقها تحوّلات بنيويّة ضخمة يتّصل بعضها بفهمنا للصراع ذاته؟

أغلب الظنّ أنّ ذاك الاستعصاء، وهو بالطبع لا ينبع من جيناتنا، يرقى إلى تثبّت شديد التجذّر عند لحظة من التاريخ المعاصر هي انهيار الإمبراطوريّات (العثمانيّة والهبسبورغيّة والقيصريّة) وظهور الحداثة السياسيّة وشكلِها في الدولة -الأمّة. ونعرف أنّ إشكال التعامل مع هذه الواقعة الخطيرة التي حملها إلى العالم غرب هو إمبرياليّ وديمقراطيّ معاً، تأدّت عنه كوارث ضخمة في أوروبا الوسطى ليس الصعود النازيّ بعيداً منها، بينما لا تزال روسيا، ذات المخيّلة الإمبراطوريّة الخصبة، تصارع حتّى اليوم واقعها كدولة أمّة. أمّا نحن، في الزمن ما بعد العثمانيّ، فكانت لنا حصّتنا التي افتتحها ورثة السلطنة المنهارة وأورثونا إيّاها.

هكذا أقلع المستعمِر إلى ما بعد الاستعمار ومكثنا نحن في حفرة المُستعمَر، فأغرينا كثيرين، فيهم العنصريّ وغير العنصريّ، بمعاملتنا ككائنات ماهويّة وكاستثناء لأنّ الكثير من قضايانا التكراريّة يتاخم الماهويّ محمولاً على جناحي «هجمة شرسة» لا تتعب ولا تتقاعد.

وهذا ليس تقليلاً من شأن «الإخضاع والاحتلال»، أي الاستعمار. لكنّه يسعى إلى الربط بين مشكلتين، مشكلة الاستعمار ومشكلتنا، سيّما وأنّ انعدام مثل هذا الربط هو ما جعل فكرنا السياسيّ، مرّة بعد مرّة وجيلاً بعد جيل، يغلّب الشرعيّة (هنا، بمعنى الهويّة التأسيسيّة للدولة: عربيّة، إسلاميّة إلخ) على السيادة (هنا، بمعنى تقديمها على الروابط القرابيّة في الدين والمذهب والإثنيّة…). وفي ظلّ تلك الأولويّة للشرعيّة، بالمعنى المشار إليه، جرى ويجري التسمين المتواصل لولاءات ما دون الدولة واستيلاؤها على آفاقنا الكئيبة.

فإن أضفنا النتائج البائسة التي أسفرت عنها المعارك القوميّة، من أعلاها مع عبد الناصر إلى أدناها مع الأسد وصدّام والقذّافي، حقّ لنا، بل وجب علينا، أن نجفل ونقف ونتساءل. يكفي أن نقيس ذلك بالحقيقة المؤلمة التي تتمثّل اليوم في  عاطفة جارفة تضرب بلداننا، مؤدّاها تمنّي الخضوع للاستعمار والعودة إلى زمن لم يصرمه إلاّ الاستعمار نفسه.

والحقّ أنّ ما انتهينا إليه يجيز القول، من دون تأتأة، إنّ التحرّر الوطنيّ كما عرفناه لم يكن سوى كارثة مطنطنة. وهذا لا يخفّف منه الإقرار المبدئيّ بحقّنا وحقّ أيّ كان من الشعوب بالتحرّر الوطنيّ، لكنّه يحول دون التصفيق الطروب لكلّ تحرير وطنيّ سبق أن أخفق ألف مرّة من قبل لأنّ التحرّر عنده ارتدّ إلى «ثأر» يتأدّى عنه إحلال سلطة محلّ سلطة، ولا يتأدّى أيّ مكسب كبير يُذكر على صعيد الحرّيّات والاقتصاد والاجتماع والثقافة…

وربّما كان تثبّت القطاع الأعرض من المثقّفين، على عكس الناس العاديّين، عند لحظة الاحتكاك الأولى مع الاستعمار، ما يفسّر عدم الاكتراث بظاهرات مضيئة تسبّب بها الغرب على نحو أو آخر. فمقابل ألف كتاب يُقرأ عن «المركز والمحيط» و«التبادل غير المتكافىء»، يكاد لا يُقرأ كتاب واحد عن نموذج «التصنيع من طريق التصدير» الذي اتّبعه الآسيويّون، وبفعله اختاروا أن يجافوا طريق «القطع» مع الرأسماليّة وأن يغدوا هم أنفسهم رأسماليّين. وكم هو مُحبط أنّ «الثورة الثقافيّة» البائسة في الصين الماويّة لا تزال، في بيئات المثقّفين العرب، موضع ذكر وتذكير لا تطمح بمثلهما ظاهرة صنعتها التوظيفات الغربيّة في الصين ومعها توظيفات الدياسبورا الصينيّة في الغرب، وخصوصاً الولايات المتّحدة، فأفضت إلى إخراج 600 مليون صينيّ من فقرهم في غضون ربع قرن فقط.

أخطر من ذلك في ما خصّ الاكتفاء الذاتيّ الفكريّ الذي أنجبه تثبّتنا ذاك، اضمحلالُ النقاش بين تيّارات فكريّة يُفترض أنّها متباينة في مصادرها وتعبيراتها وأهدافها، ومن ثمّ اضمحلال الحيّز الفكريّ ذاته. فالقوميّ والإسلاميّ واليساريّ إلخ…، هم اليوم، وكما حاولتُ أن أبرهن في الكتاب المنقود، «جبهة» واحدة تكمّل «الجبهات» الحزبيّة التي درج على إنشائها صدّام حسين وحافظ الأسد وأضرابهما.

أمّا المثل الصارخ الأشدّ حميميّة فهو مدى الإنكار الذي نواجه به تكسّر مجتمعاتنا وتفسّخ علاقاتنا الأهليّة، والميل إلى صدّ النفس عن معارف، وأحياناً عن معلومات، نأبى أن ينتجها إلاّ نحن فيما نحن لا ننتجها.

وعلى العموم، كان الحكّام ولا يزالون الطرف الأذكى والأقدر على استخدام التثبّت الثقافيّ هذا وعلى ضمّه إلى ترسانتهم «السياديّة» في وجه «التدخّل الأجنبيّ الإمبرياليّ» في شؤوننا.

أمّا أجيال الحكّام واختلافاتهم ممّا يشير إليه ياسين فهو ما لم يتطرّق إليه كتابي، وإن كان لا يزال يغلبني الظنّ بأنّهم يتقاطعون، بل يتكاملون، أكثر كثيراً ممّا يربط التغيّر والقطع بينهم. ولئن بدت هذه الاستمراريّة صارخة وكليشيهيّة في الحالة السوريّة، وكادت تغدو كذلك في الحالتين العراقيّة والليبيّة لو قُيّضت نهايات أسعد لصدّام والقذّافي، فإنّ «شرعيّة ثورة يوليو»، التي تمتدّ من عبد الناصر إلى السيسي، ليست قليلة الدلالة في شمولها المجمّع السلطويّ الواحد، والأدوات والتقنيّات التي يُمارَس القمع بموجبها (الأمن، التنظيم السياسيّ، الإعلام، التعليم…) وعبادة الزعيم وجيشه ودولته. وكم يبدو هذا التلاقي ساطعاً حين يجتمع «عملاء الغرب» و«عملاء الشرق» على استلهام نموذج مشترك في القمع والعدوان على حقوق الإنسان.

ويكاد ياسين يقدّمني بوصفي عدوّاً لـ «الكرامة» بإطلاق المعنى، وإن أشار مرّةً إلى تمييزي بين الكرامة والعنجهيّة. وغنيّ عن القول إنّ معاداة الكرامة ليست على أجندتي، لكنْ ما الذي نجده إذا حاولنا التأريخ لهذا المفهوم في استخدامه العربيّ الحديث؟

واقع الحال أنّه، وباستثناء السنة الأولى من عمر «الربيع العربيّ» الذي كان فعلاً طلباً على الكرامة الإنسانيّة بالمعنى النبيل للكلمة، وُلد هذا المفهوم في تجربتنا السياسيّة الحديثة مصاباً بالعوج وهكذا عاش. فهو تأسّس مع جمال عبد الناصر، صاحب «ارفع رأسك يا أخي»، والذي أمّم السياسة والصحافة والتعليم، وأنشب أظافر المخابرات في أعناق الناس، وحين قرّر محازبوه أن ينشئوا حزباً بعد رحيله لم يجدوا اسماً له أفضل من «حزب الكرامة». مذّاك والمصطلح لا يُفهم بوصفه كرامة إنسانيّة تندرج في حقوق الإنسان، كما يذكر ياسين بحقّ، بل ككرامة قوميّة أو دينيّة أو قَبَليّة يسهر على تنفيذها مَن يقيمون أنظمة من المهانة والإذلال لسكّانهم ومواطنيهم. فكرامةٌ تشتعل ضدّ الغريب وتخبو ضدّ القريب تقضم المعنى الإنسانيّ الشامل للمفهوم لتجعله جزءاً من عدّة الهويّة ومن متاعها. وهي المهمّة التي تتولاّها المخابرات والزنازين أداتيّاً، ويتولاّها المثقّفون والدعاة مفهوميّاً. وعلى هذا النحو ما إن يُذكر المفهوم حتّى يرد موصولاً بصدّام حسين أو حافظ الأسد أو آية الله الخمينيّ…

وأغلب الظنّ أنّ محاولة «الربيع العربيّ» تحرير مفهوم «الكرامة» من استعماله الرائج هو من أكثر ما أهاج ضدّه الأنظمة، كما أهاج الأكثريّة الساحقة من المثقّفين المتمسّكين بالكرامة «في مناهضة الإمبرياليّة».

فوق هذا فإنّ ما يتأدّى عمليّاً عن هذه الكرامة يكاد يُختصَر في نقطتين: ردع مَن قد يتدخّلون من الخارج وقفاً لمذبحة يمارسها نظام بحقّ شعبه، أو أكثريّة بحقّ أقلّيّة، أو العكس، وحصاد هزيمة عسكريّة أمام الطرف الذي يتمّ تشغيل الكرامة تشغيلاً حصريّاً في مواجهته. وفي النهاية، يطرأ، مرّةً بعد مرّة بعد مرّة، مزيد من الاختلال لغير صالح الكرامة كائناً ما كان المقصود بها.

لقد بذل ياسين جهداً ملحوظاً ولافتاً، عبر دراسات ومقالات كثيرة، للبرهنة على الطبيعة الإباديّة للنظام الأسديّ وأفعاله. وحين يكون النظام إباديّاً، لا بدّ أن تنخفض الشروط الموضوعة على مَن قد يتدخّلون لوقف الإبادة. فإن كان هؤلاء مُحجمين عن التدخّل، وهم ليسوا متطوّعين أخلاقيّين على أيّ حال، فلا بأس بمحاولة إغرائهم بالتدخّل لأنّ وقف الإبادة يعلو كلّ اعتبار آخر. وحتّى في ظلّ اليأس من إمكان التدخّل في وقت بعينه، لا ينطوي على أيّ ضرر وضعهم أمام مسؤوليّاتهم الأخلاقيّة، التي لا ينكرونها لفظيّاً وخطابيّاً، وقد يمنح معارضيهم، الأصدق والأشدّ اهتماماً بتقريب الفعل من القول، حجّة عليهم.

وهذا ما يندرج في فهم للسياسة وللفعاليّة السياسيّة يخالف فهم ياسين لهما. وواحدُنا، في آخر المطاف، قد يجد ملجأ له في الملاحم حيث تنهار جبال وتفنى أمم لأنّ العدالة الكاملة لم تتحقّق، وهو قد يقول في نفسه «كذا أنا يا دنيا». لكنّني في وارد آخر يدفعني، لحسن الحظّ أو لسوئه، إلى الاهتمام بتعرّجات الطريق وتوازنات القوى ومراكمة الخطوات الصغرى، وأخيراً بالفعاليّة السياسيّة التي لا تعوّضها أيّة إطلاقيّة أخلاقيّة ولا تنوب منابها.

وفي هذا المعنى، وبالاعتذار من نقاء المثقّفين، أعترف بأنّ إعجابي تثيره المحاولات الهائلة التي بذلها تشرشل، وكانت تبدو قبل بيرل هاربر بائسة وميؤوساً منها، لتوريط الأميركيّين في الحرب العالميّة الثانية، أو محاولة بن غوريون، التي أثمرت أخيراً، لاستمالة الأميركيّين إليه بعدما هزموه وأذلّوه في 1956، أو تحمّل مانديلاّ ومشاركته العنصريَّ التائب دو كليرك مرحلة الانتقال إلى ما بعد العنصريّة…

وهما، في النهاية، طريقتان في النظر إلى الأمور، خصوصاً منها أمورنا.

موقع الجمهورية

==========================

حازم صاغية ورومانطيقيو المشرق العربي/ عباس بيضون

يستوقفنا في البدء عنوان كتاب حازم صاغية، بل مجلده الأخير، فهذا العنوان ليس (الرومانطيقية) بإطلاق ولكن “رومانطيقيو”، بما يعني ذلك من فرادة وتعدد. لسنا إذن أمام مفهوم موحد، بل لسنا أمام مرجع نظري جامع. ليست الرومانطيقية بمردّها الغربي هنا سوى جملة عناصر ومقومات، بل ومواصفات تتعدد بتعدد الملتحقين بها، أو الذين يتصلون، على نحو ما، بها.

هكذا يبدأ مجلد حازم البالغ قرابة 600 صفحة، بتقديم الرومانطيقية بتعريفاتها الكثيرة والمتغيرة بحسب زمانها وبيئاتها. هكذا نقع على تعريفات لا ينكر حازم تضاربها أحياناً والتباسها. إنها العداء الحاسم للرأسمالية والتنوير، لكنها أيضاً نكوصية وطوباوية ودعوة للعودة إلى الماضي. قد تكون إلى الريف. وهي على هذا النحو انفصال عن الواقع و”قبض عليه بمبضع الأساطير”.

العودة إلى الريف وإلى الماضي هي أيضاً عودة إلى الطبيعة. إنها “رسم طوبى مستقبلية تتغذى على ماض مؤسطر”. هذا قد يؤدي إلى إنكار للرأسمالية وإلى نقد حديث للحداثة، وإلى صوفية وتجربة دينية، وإلى إضفاء قداسة على اللغة القومية، وإلى عنصرية وبلشفة ونازية، وبالطبع سيتلازم ذلك مع تقديس الشعب والإيمان بعبقريته.

هكذا نجد أنفسنا أمام حشد من مواصفات قد تتضارب، لكنها تكاد تجمل في انفصال عن الواقع وأسطرة للماضي و تقديس للشعب واللغة القومية. و إذا عدنا إلى تاريخها في منطقتنا، في مشرقنا العربي، فإن ذلك يتطلب العودة إلى  الأصول العثمانية والتركية لها، كما يقتضي العودة إلى الأصول العربية في العراق ومصر وسوريا، بدءاً من الهوى الألماني النازي حتى الانقلابات العسكرية في مصر الناصرية والعراق وسوريا البعثيتين.

لا بد بالطبع من مرور مسهب بالمسألة الفلسطينية وبالصحوة الإسلامية السنية والشيعية، و بالحركة الماركسية. إلى أن نصل إلى إدوارد سعيد و”نقد الاستشراق السعيدي” ولواحقه وذيوله.

سنمر كذلك بتوسع في المسألة الطائفية والربيع العربي. إذا توقفنا أمام هذه  العناوين التي استتبع كل منها بحثاً ملياً وعودة إلى الجذور وتقصياً لمختلف المراجع والمصادر وتتبعاً لتاريخ المسائل وأقطابها والعابرين فيها، بحيث  نشعر أن مجلد حازم صاغية يكاد يشمل كل أسئلتنا ومسائلنا المطروحة والشاغلة، وبحيث نجد أنفسنا أمام موسوعة لسجالنا السياسي وفضائنا السياسي في جملته.

مجلد حازم صاغية هو لذلك شامل لثقافتنا السياسية. إن فصوله في استعادتها للقصي والمتتابع والمتواتر والتفصيلي تكاد تكون، أو يكون، كل منها كتاباً قائماً بذاته. هكذا يكون مجلد صاغية كتاباً من كتب.

يكاد كتاب صاغية أن يكون نقداً للثقافة العربية المعاصرة. هكذا يغطي الكتاب تقريباً هذه الثقافة بنتاجاتها وأسمائها. هي في غالبيتها الساحقة تنتمي ، وربما من دون أن تدري وعن غير قصد، إلى هذه الرومانطيقية بمختلف نوازعها وكناياتها. أشخاصها من حيث لا يحتسبون واقعون في غمارها، مهما يكن الاسم الذي يتخذونه، الحداثة غالباً، بدون وعي منهم إلى أنهم في النقيض منها.

نقد الثقافة العربية المعاصرة لا يبالي في رده تلك العودة إلى الماضي، الانقلاب على الغرب والحداثة المقلوبة، إلى اسم غربي غير قائم في تراث هؤلاء ولا في موروثهم. الرومانطيقية بكل مسمياتها ونوازعها، التي حواها الفصل الأول هي التي تشمل، من قريب وبعيد في الوقت ذاته، هذه الثقافة، بل هذا التاريخ الذي يحويها.

هكذا نجد اسماً كبيراً يشمل إلى جانب هتلر وستالين، عبد الناصر وميشيل عفلق. لا يدافع صاغية عن الاسم الذي اختاره، لكن شمول هذا الاسم وكونيته يبررانه. قد نقتنع بذلك ولا نرفضه. الرومانطيقية اسم غربي يصح لتغطية نزوع ضد الغرب. هذا ما لا ينفك يحدث. مع ذلك قد يتفرع عنه ومنه اسم من داخل الإرث العربي.

يصل صاغية أموراً كثيرة في تاريخنا وثقافتنا بالقرابية التي هي موروثة فينا وفي تاريخنا. ألا يدعو هذا إلى الرجوع إلى أصل عربي طالما استعيد في أدبياتنا؟ إنه البداوة. لست متيقناً لكني أشعر أن البداوة قد تكون، على نحو ما، رومانطيقيتنا. وإذا كان ذلك قريباً من الصحة، أمكن أن نستعير البداوة وأن ندخل منها إلى التنظير لوعينا وموقعنا التاريخي وأيديولوجيتنا .

لا تمانع نقدية صاغية المفرطة في أن تكون لديه دعوة. صاغية بالطبع ليس داعية لكن له دعواه التي إذا شئنا أن نطلق اسماً عليها، وجدنا الليبرالية، ولا ريب في صدورها عن الغرب. بل إن الغرب التاريخي يبدو في طيات النص الطويل هو المعيار والنموذج. جرياً على التاريخ الغربي، يرد صاغية في غير مكان أن أزمتنا تكمن في عدم نشوء بورجوازية. لكن الحداثة الغربية (المودرنيتي) التاريخية قد تتباين مع (المودرنيزم) الذي قد يكون “حداثة ضد الحداثة”، بالرجوع إلى صادق جلال العظم.

حازم الذي يؤكد أن الغرب ليس واحداً، يختار غربه العقلاني الرأسمالي المديني الليبرالي. إنه هكذا مع غرب يعتبره تاريخياً ضد أكثر من غرب آخر، هو غرب المودرنيزم. لكنه هو أيضا الغرب. لماذا الإصرار على أن يكون الانتساب هو لهذا الغرب الواحد، ولماذا يكون اختيار غرب آخر بحت رومانطيقية فحسب؟

رصيف 22

لتحميل الكتاب اتبع الرابط التالي

رومنطيقيو المشرق العربي/ حازم صاغية

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت

كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى